لكي نتحدث ونوصف حدثا, يجب أن نعيشه, وإلا كان وصفنا منقوصا أو بعيدا عن الواقع.. وتنطبق تلك القاعدة على الشخوص, فلا يمكن التحدث عنه إلا بمعرفته حق المعرفة.
لأن لكل قاعدة إستثناءات, فيمكننا أحيانا الحديث عن شخوص, وان لم نعرفهم بشكل دقيق وشخصي, وخصوصا العظماء منهم.. لا لأن من يتحدث يعرفهم بشكل كافي, لكن فيض عطاء مثل هؤلاء كبير وعظيم, حتى أنما يرشح أو ينقل, حتى على لسان أعدائهم, أعظم من أن يخفى أو تضيعه أحقاد وخصومهم.
لكي نتحدث عن شخصية لها جنبة دينية مرجعية, يجب أن يكون لنا تصور عن كيفية الحياة التي يعيشها طلبة العلم, ومرجعياتهم الدينية, ونطلع بشكل عام على أجواء النجف الدينية, وطرق وأليات دراستهم الحوزوية, وحالة حد الكفاف والبساطة التي يعيشونها.
لفهم مواقف سياسي أو زعيم, يجب الإطلاع على البيئة التي نشأ فيها, والحاضنة الفكرية التي نمى بين جنبتيها, وأثرت فيه خلال نشأته, ومواقفه السابقة من مختلف القضايا.
فهم رجل من أصول دينية مرجعية, وكان زعيما سياسيا وإجتماعيا, أصعب وأعصى على التوصيف, لتعقيد القضية والمسألة, ولكثرة العوامل والمؤثرات التي تتداخل في تكوين شخصيته, وتنازع عوامل الخير التي تغرسها البيئة الدينية, وما تسالم عليه المشتغلون بالشأن السياسي, ورغبات الشر في التغاضي عن كثير من المحددات الأخلاقية والدينية, وأي جنبة ستتغلب على مواقفه وصفاته.
محمد باقر الحكيم, رجل محير للكثيرين.. فمحبيه كانوا يرون فيه الزعيم السياسي, الذي يمكن أن يمثل أملهم في مستقبل يحلمون به, بعد سنوات عجاف من حكم البعث وصدام, وهو أبن الأسرة العلمية العريقة التي يعرفون كيف تنشئ أبنائها, ولديهم معرفة وافية بموافقه.. وخصومه كانوا يرون فيه, المعتدل الذي يمكن التوصل معه لمواقف مشتركة ترضي الجميع, ولا تجعل تفوقا لأحد.. لكن خصوما أخرين, كانوا يرون فيه نموذجا صالحا وهذا ما لا ينفعهم, فهو سيظهر قدر إنحراف من يريدون جعلهم حكام العراق الجدد, فكانت خيار هؤلاء تصفيته.
بيئة النجف الأشرف الدينية والأدبية, كان لها أثر كبير في صقل ذهنية الحكيم الراحل, وتربيته المرجعية العالية المنضبطة, جعلت تلك الشخصية بمواصفات خاصة, فهي كانت تهيئه للزعامة, لا طلبا للزعامة بحد ذاتها, لكن تحقيقا لمواصفاتها, فمن يعرف النجف الأشرف, يتأكد تماما أن هناك عشرات العلماء ممن يملكون قدرة التصدي للمرجعية, من حيث المواصفات والشروط العلمية والشخصية, لكن تسالمهم على دعم من يتصدى أولا للساحة, حفظا للمصلحة العامة هو من يحكم الموقف.
مواقف الرجل وتركيزه على قضايا التأسيس للدولة الجديدة, ووضعه لمناهج وتصورات ورؤى متقدمة عن زمانها في حينها, وإستشعار خصومه القريبين منهم والبعيدين, بمدى مقبوليته لدى الناس, ربما كان سببا في تعجيل إستهدافه بهذه الطريقة الدموية.
قد يكون إستذكار الحكيم لبعضنا, مجرد رثاء لشخص فقدناه.. لكنه فرصة للإطلاع, وفهم تراث الرجل, ومشروعه للجماعة الصالحة, وأفكاره للدولة الجديدة, فكثير منها بدأت ترى النور اليوم من خلال قوانين وتشريعات.. يعود فضلها له ولأفكاره.
المهندس زيد شحاثة