أحمد الحسني
ما بين العرفاء والسادة النقباء، مسيرة راياتها رفرفت ودمائها نزفت عند أشواط الوغى، وفي مثابة أولها ديارعلوم وأزقة معرفة، كبيرها سما وصغيرها عفى، برقت أسمائهم كبريق من قباب سيد النجف، رجال إستثنائيون على عكس مسيرة الطوفان وجريان أمواج المحنة، يهبون الوطن حياة، ذكراهم كنسيم صبح إذا تنفس يهب قوافل السائرين، وعذب فرات يروي غليل الظامئين، فدمائهم كشئابيب المطر، أحيت أرض ألأنبياء والأمامة، قيادة لم توصد أمام أدوات التشويه طالما كتبوا تأريخهم تحت ظلال السيوف.
من معين المسيرة وبطون تأريخها الفذ، فأن القيادة عهد وأمانة وأستعداد وإدارة موقف، تجسد شرعيتها وثوابتها التي تبقيها مدرسة تنفرد بالتضحيات بعد رحيلك المر سيدي، فقطعت حبائل التجاذبات عن مادونها، قائد عن قائد، كانوا دورتها الدموية التي تغذيها بالقوة ومعالم طريق وركن مطمئن، تمنع عنها التصدع ثم التشقق الى مسالك من تيه سياسي كي لاتكون يوما أسيرة غور على طاولة الرهانات.
إن قيادات هذه المسيرة وإن تواترت، حق ثابت بيانه وواضح أعلامه صاغته الدماء الطاهرة العزيزة، تقلب الوطن ذات اليمين وذات الشمال كي لا يناله وباء الرقود، لحقت بهم أجيال غربلتها المواقف فزادتهم وعي ومعرفة وبصيرة، وكان التاريخ يدون، وعليهم لابد لهم من الطواف حول معينها العامر، قادهم فزادهم نضج فكري الى عشق قدر المسيرة، وساقهم شغف القلوب عن إثراء الجيوب، فعشقوا الأثر الطيب، وغرسوا لأقدامهم موطئ ثبات، فطبعوا خطواتهم حيث خطى من يشبهكم في كل شيء، حين أحاط بما لم يحطون به، ففي الضجيج هو سيد الكلمة ومعقل الحل، فكان بين الثابتين وبين المترددين أختبار وأختيار.
على طرف من المسيرة حيث خصوم الوصية، ممن إرتضوا أن يكونوا خارج التأريخ وفشلهم في محاولة تفكيك معانيها وألفاظها فعفت عنهم وغادرتهم، فأضاعوا اللحاق بها بالتأخير وفشلوا في التقدير، حين غاصوا في مستنقع الأعذار فأقدامهم معوجة، وخطاهم مشوهة لاتصلح الى المسيرة، فتوقفوا عند المنتصف أو أقل من ذلك بعدما خارت بهم عقولهم قبل أقدامهم ضنا منهم أنهم بلغوا الهدف، فعاد بهم التيه الى براثن الإنقسام، وخلف فيهم شتات الرأي مزالق الأقدام، فطالما كانوا البكتريا التي تعتاش على جسد المسيرة وأنقلبوا الى دعوات باطلة يراد بها باطل، ورايات ضلال يراد بها ضلال، يسوقهم الوهم، وتمنيهم الغاية، فيما عيونهم في الدرب الى الوراء، ومازالوا يتجزؤن الى أجزاء ثم جزيء، تعصف بهم الدوائر، فالأيام دول كفيلة لتزجهم بوابة الأفلاس من التأريخ.
في طرف أخر منها وفي زاوية مخجلة ميتة، جمع ممن يستأنسون لهدير الأوهام، ويستوحشون صبوح الأيام، يقبع فيها صغار من حديثي قراصنة التأريخ، ممن يحاولون عبور صفحات قيادة المسيرة ورجالها بقفزة لصوصية، قد كبلتهم قيود النفعية، فسهولة إنقيادهم تكمن بضعف الفكر عندهم والرشد الى البوصلة، فمع الترويض بهم بطريقة سيركية، قادهم التصفيق وأطربوا لإيقاع التفكك بهم، سطحيون، جمعتهم دائرة التأنيث بلامواقف، فأنفضوا من حوله حين تجاذبتهم أضطرابات السياسة وأنقلاب الساسة، مخمورون في تيه متقلب من الأحلام والأفلام.
على كلا طرفي المسيرة سيدي، مداد وأدوات وقرطاس وضمير ، عَلمت جماهيرها أنه التأريخ، أراد لها أن تكون حياة كاملة لن توقفها لحظة سكون، فالقائد الراحل يولد من جديد، تعدد أدوار ووحدة منهج، فعند كل مخاض كان ركنها الآمن الذي يدفع عنها أصوات الأحباط والقنوط، قيادة ومسيرة لن تلتفت الى الوراء، وزجت بمن لا يليق بها وتخلف عنها على أرصفة الباعة !.