درباس إبراهيم
في زمن يتصارع فيه الشعب الكردي على هوية الحاضر، يذبح تاريخه بسكاكين الأيديولوجيا. فبين من يرفع راية الدين كهوية أبدية، ومن يرفع راية العلمانية كخلاص نهائي لمواكبة العصر، تضيع أسماء وشخصيات كردية ساهمت في تشكيل هوية هذا الشعب، وقادت ثوراته، ودافعت عن كرامته ووجوده، وساهمت في بروز اسمه بين الأمم. ليس لأنهم لم يكونوا أبطالا أو مؤثرين في مجالهم، بل لأنهم لا يشبهون النموذج الذي يريد كل تيار فرضه على الذاكرة الجمعية الكردية.
لا يخلو تاريخ الأمم من الشوائب والنواصع. فالتاريخ لا يكتب حسب المزاج الأيديولوجي ولا وفق الأمنيات، بل يكتب كما هو: بسلبياته وإيجابياته، بإخفاقاته وإنجازاته. فإما أن نقبل التاريخ بكليته كما هو، ونضعه على طاولة التشريح المعرفي لاستخلاص الدروس والعبر، أو أن نمسحه كليا من الذاكرة ونبدأ من الصفر، وهذا وهم يصعب تحقيقه.
إن الصراع الداخلي الذي يشهده الشعب الكردي في تقييم تاريخه وشخصياته لا يخضع لمنطق موضوعي، بل تحكمه أهواء أيديولوجية خطيرة. فشريحة من الكرد تتنكر لرموزهم التاريخية بدافع الأيديولوجيا، سواء كانت دينية أو علمانية. فالعلمانيون يهاجمون الشخصيات ذات الخلفيات الدينية، والدينيون يقللون من شأن الرموز المدنية أو القومية أو اليسارية. هذه الظاهرة وإن بدت فكرية في ظاهرها، إلا أنها تكشف عن أزمة أعمق تتعلق بالهوية والانقسام الداخلي. وبدلا من تكامل الرموز، نجدها في حالة صراع دائم. وكأننا نقول: إما أن تكون علمانيا فتتبرأ من التاريخ الديني، أو أن تكون دينيا فترفض الحداثة والعلمانية. وكأن الوعي الجمعي الكردي عاجز عن رؤية التعدد والتنوع بوصفهما مصدر قوة، لا تهديد.
التاريخ الكردي زاخر بالشخصيات الدينية والعلمانية واليسارية والقومية في مختلف المجالات، التي خاضت نضالا كبيرا ضد الطغاة، ودفعت أثمانا باهظة من أجل تحرير شعبها من الاستعمار. من الشيخ سعيد بيران، ومحمود الحفيد، والملا مصطفى البارزاني، وعبيد الله النهري، إلى عبد الرحمن قاسملو، ومقداد مدحت باشا، وليلى قاسم، والقاضي محمد، ومحمد أمين زكي،وجلادت بدرخان، وجكر خوين، وشيركو بيكس، وغيرهم الكثير ممن شكلوا ملامح الهوية الكردية.
ولعل صلاح الدين الأيوبي أبرز مثال على هذا التنازع الأيديولوجي. إنه شخصية عظيمة يحظى بإعجاب واسع لدى معظم المسلمين وحتى غير المسلمين، لكنه يتهم أحيانا في الخطاب القومي الكردي بأنه لم يقدم شيئا ملموسا لقضية شعبه. وهنا لا بد أن نفهم أن الشخصيات التاريخية هي أبناء زمانها وسياقاتها التاريخية، ولا يجوز أن نقيمها بمعايير عصرنا الحالي، وإلا ارتكبنا ظلما تاريخيا بحقهم. لا يمكن محاسبة رجل عاش في القرن الثاني عشر بمنطق القرن الحادي والعشرين. كما أن احترام هذه الشخصيات لا يعني بالضرورة تبني توجهاتها الفكرية، بل الاعتراف بدورها التاريخي. فعلى سبيل المثال، لو وضع الشيخ سعيد بيران في حقبة صلاح الدين الأيوبي، ونُقل صلاح الدين إلى زمن الشيخ سعيد، ربما كانا سيتبادلان الأدوار في ضوء ما يفرضه السياق التاريخي عليهما. ولهذا يجب أن نتحرر من عقلية المحاكمة الأيديولوجية التي تختزل الإنسان في توجهه الفكري أو خلفيته الاجتماعية، بدلا من تقييمه بموضوعية متحررة من الانغلاق.
إن التاريخ ليس ملكا لجهة دون أخرى، بل هو إرث جماعي لا يختزل في أيديولوجيا ضيقة. إن احترامنا لتاريخنا لا يعني تجميده أو تمجيده دون نقد، بل يعني أن نقرأه بوعي، وأن نحترم من سبقونا، حتى حين نختلف معهم. فالتاريخ لا يكتب بالعقائد ولا بالعقد، بل بالدماء التي سفكت، والتضحيات التي قدمت، والأفكار التي انتشرت، والوفاء الحقيقي هو أن نتعلم من هؤلاء ونستفاد من تجاربهم، لا أن ندفنهم تحت رماد الانقسام الأيديولوجي.
