حينما يفر العراقي من حر بغداد إلى خنادق كييف وموسكو

أحد, 11/23/2025 - 11:29

 

‏محمد النصراوي

‏بينما يتابع العالم بحبس الأنفاس صراع الدب الروسي مع الغرب على الأرض الأوكرانية، وفي زحمة الأخبار العاجلة التي تتدفق كالسيل الجارف من الجبهة الشرقية لأوروبا، تسربت معلومة صادمة – تكاد تكون سريالية – عبر تقارير استخباراتية وأحاديث الغرف المغلقة، مفادها أن هناك نحو ثلاثة آلاف عراقي يقاتلون تحت راية الجيش الروسي، يقابلهم ألفان آخرون اختاروا – أو أجبرتهم الظروف – على الوقوف في خندق الجيش الأوكراني، وهو خبر لو تأملناه قليلاً لتجاوز في قسوته مجرد الإحصاءات العسكرية، ليتحول إلى وثيقة إدانة صارخة للواقع الذي وصل إليه الإنسان العراقي، فكيف لابن البصرة التي تصهرها الشمس، أو ابن الموصل التي خرجت لتوها من تحت الركام، أن ينتهي به المطاف متجمداً في خنادق الثلج؟، يقاتل في حرب لا ناقة له فيها ولا جمل، وبلغة لا يفقه منها حرفاً، دفاعاً عن قضايا جيوسياسية تبعد عنه آلاف الأميال؟

‏إن هذا النزوح نحو الموت يفتح الباب واسعاً أمام تساؤلات استقصائية مؤلمة حول الدوافع التي تجعل الشاب العراقي يحمل روحه على كفه ويغادر بلاده، ليس طلباً للجوء أو الأمان هذه المرة، بل طلباً لميدان قتال جديد، وكأن قدر العراقي أن يبقى محارباً أبدياً، فبعد عقود من الحروب الداخلية والاستنزاف الطائفي ومعارك التحرير، تشكلت في العراق طبقة من الشباب لا تتقن "حرفة" سوى القتال، وحينما ضاقت بهم السبل في وطن يطفو على بحر من النفط، تحولت "البندقية" من أداة للدفاع عن الوطن إلى "تذكرة سفر" ووسيلة للعيش، ليجد هؤلاء أنفسهم وقوداً رخيصاً في بورصة الحروب الدولية، حيث سماسرة التجنيد يلعبون على وتر الفقر المدقع، ويقدمون الوعود بالجنسية تارة، وبالدولار تارة أخرى، لاستقطاب مقاتلين تمرسوا على حرب الشوارع وحرب العصابات، وهي بضاعة نادرة يطلبها الروس والأوكرانيون على حد سواء.

‏المشهد يبدو عبثياً بامتياز، فبينما تتصارع القوى العظمى بصواريخ فرط صوتية وطائرات مسيرة، نجد المقاتل العراقي (الذي يُفترض أنه يهرب من دمار بلاده) يقف في المنتصف، مقسماً بين المعسكرين، فهؤلاء الثلاثة آلاف في الجانب الروسي، والألفان في الجانب الأوكراني، قد يجدون أنفسهم في لحظة ما يوجهون فوهات بنادقهم نحو صدور بعضهم البعض في أرض غريبة، يعيدون إنتاج المأساة العراقية ولكن بديكورات أوروبية باردة، وهذا يقودنا للبحث في دهاليز "مافيا التجنيد" التي تعمل بصمت، مستغلة رغبة الشباب في الهجرة، فتوهمهم بأن التطوع للقتال هو الطريق الأقصر للحصول على أوراق الإقامة في أوروبا أو روسيا، ليتحول الحلم الوردي بالاستقرار إلى كابوس دموي، حيث يُزج بهم في الخطوط الأمامية كدروع بشرية أو "مجموعات اقتحام" لتقليل الخسائر في صفوف الجيوش النظامية لتلك الدول، فدم "المرتزق" – كما يسمونه في العرف العسكري – أرخص تكلفة وأقل إحراجاً سياسياً من دم الجندي المواطن.

‏إن خطورة هذا الخبر لا تكمن فقط في الرقم – سواء صح بدقته أم كان مبالغاً فيه – بل في الرمزية التي يحملها، فهذه الأرقام هي جرس إنذار مرعب يشير إلى يأس جيل كامل فقد الانتماء للأرض التي ولد فيها، وقرر أن يبيع مهارته القتالية لمن يدفع، في ظاهرة تذكرنا بمرتزقة العصور الوسطى، لكن بنكهة القرن الحادي والعشرين، وإذا ما صح أن خمسة آلاف عراقي يُطحَنون الآن في رحى الحرب الأوروبية، فهذا يعني أننا أمام نزيف بشري صامت، وأمام حقيقة مرة تقول إن "صناعة الموت" باتت المنتج الوحيد الذي يصدره العراق بامتياز، فبدلاً من أن نرى هؤلاء الشباب يبنون جسور بغداد ويعمرون مزارع الجنوب، نراهم يحفرون القبور في "باخموت" و"خيرسون"، في تراجيديا إغريقية يعجز حتى الخيال عن نسج خيوطها، تراجيديا عنوانها العريض "هربوا من الموت في وطنهم، ليموتوا غرباء في حروب الآخرين".

Share

أخبار موريتانيا

أنباء دولية

ثقافة وفن

منوعات وطراف