(مصير المبادرة الفرنسية في أحسن الأحوال هو ان تتحول إلى قرار يصدره مجلس الأمن الدولي من دون أي آلية دولية لتنفيذه على الأرض)
تبدو القيادة الفلسطينية على أبواب الانخراط مجددا في جولة جديدة من إدارة الصراع مع دولة الاحتلال الإسرائيلي من بوابة فرنسية هذه المرة، بدل التراجع نهائيا عن الانجرار طوعا إلى استراتيجية إدارة الصراع التي تمارسها الدول الغربية منذ زرعت دولة الاحتلال غصبا وقهرا في فلسطين من أجل حمايتها ومنع المقاومة الوطنية لها.
وكأنما ربع قرن من زمن الرعاية الأميركية – الأوروبية لإدارة الصراع في فلسطين منذ انطلاق مؤتمر مدريد عام 1991 لم يكن تجربة مرة من السذاجة الفلسطينية السياسية تكفي لانقشاع الوهم الفلسطيني الذي صدق بأن ذات الدول التي صادرت بالقوة القاهرة حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره فوق ترابه الوطني وزرعت دولة الاحتلال في وطنه يمكنها أن تساعده حقا في ممارسة هذه الحق.
لقد كانت نتائج الانخراط الفلسطيني في الإدارة الغربية للصراع في فلسطين وعليها لصالح دولة الاحتلال حصادا مرا من التهويد المستشري للقدس، والاستعمار الاستيطاني المستفحل للضفة الغربية لنهر الأردن، وتجريد الشعب الفلسطيني من حقه في المقاومة من مواطن لجوئه وشتاته، وفرض الحصار على مقاومته الوطنية داخل سجن قطاع غزة الكبير ومطاردتها في بقية وطنه المحتل، ما قاد إلى الانقسام الفلسطيني الراهن.
وما يسمى "المبادرة الفرنسية" للتوصل إلى تسوية متفاوض عليها بين دولة الاحتلال وبين قيادة منظمة التحرير الفلسطينية تمثل الجولة الغربية الأحدث لإدارة الصراع في فلسطين.
فالحركة الدبلوماسية لوضع "المبادرة الفرنسية" موضع التنفيذ تتسارع، وتتسع دائرة التاييد الدولي لها، ويبدو أن الدبلوماسية الفرنسية قد نجحت في وضع عجلاتها على السكة، بغض النظر عن معارضة حكومة الاحتلال الإسرائيلي المعلنة لها.
وبالرغم من المعارضة الوطنية الفلسطينية الواسعة للمبادرة، تبنتها منظمة التحرير الفلسطينية، ويبدو حشد التأييد الدولي لها هو الشغل الشاغل لقيادتها ودبلوماسيتها، ف"المبادرة الفرنسية" قد تحولت إلى المسوغ الرئيسي لاستمرار الرئاسة الفلسطينية في استراتيجيتها التفاوضية.
وتبدو المبادرة كذلك دليلا تشهره رئاسة منظمة التحرير في وجه معارضيها على نجاحها في تدويل الرعاية الدولية للمفاوضات مع دولة الاحتلال بعد نفض يدها من الرعاية الأميركية المنفردة لها.
ومن الواضح أن رهان قيادة منظمة التحرير على المبادرة الفرنسية يؤخر استجابتها لاستحقاقات وطنية مثل التوافق الوطني على استراتيجية بديلة كمدخل لشراكة نضالية تؤسس لوحدة وطنية تنهي الانقسام الجغرافي والسياسي الراهن.
ومن الواضح كذلك أن المبادرة الفرنسية قد تحولت إلى سبب جديد لاستفحال الانقسام الوطني الفلسطيني، فبينما أعلنت فصائل المقاومة معارضتها للمبادرة، وأولها حركتا "حماس" و"الجهاد" والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وأعلن العديد من الفصائل الأعضاء في منظمة التحرير تحفظات جادة عليها، أشادت اللجنة المركزية لحركة "فتح" التي يقودها الرئيس محمود عباس في اجتماعها أواخر الشهر المنصرم بالمبادرة الفرنسية وأكدت إصرار الحركة و"القيادة الفلسطينية" على عقد المؤتمر الدولي الذي تدعو المبادرة إليه.
يوم الأربعاء الماضي، وخلال لقائه مع الرئيس عباس في رام الله، أكد المبعوث الياباني إلى الشرق الأوسط، ماساهيرو شونو، تأييد بلاده للمبادرة الفرنسية. وكان وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي المجتمعين في بروكسل قد أعلنوا يوم الاثنين الماضي تاييدهم للمبادرة والمؤتمر.
وكان مجلس جامعة الدول العربية المنعقد في القاهرة على مستوى وزراء الخارجية في الحادي عشر من الشهر الجاري قد رحب بالمبادرة الفرنسية. وقد حرص وزير الخارجية الفرنسي جان مارك ايرولت على أن يكون في القاهرة أثناء انعقاد الدورة ال145 لمجلس الجامعة ليحصل على شرعية عربية للمبادرة وقد نالها، بعد أن ناقش مبادرة بلاده في اجتماع مع نظرائه العرب الأعضاء في لجنة متابعة مبادرة السلام العربية (مصر والأردن والمغرب وفلسطين إضافة إلى الأمين العام للجامعة العربية).
وكان ايرولت في اليوم السابق قد أعلن من العاصمة المصرية ثلاثة مراحل للمبادرة:
أولها خلق مجموعة دولية – عربية لدعم المبادرة ومتابعتها، وثانيها عقد مؤتمر سلام دولي بحضور كل الأطراف المعنية قبل نهاية الصيف الجاري، وثالثها الذهاب إلى مجلس أمن الأمم المتحدة بمشروع قرار يتضمن النتائج التي يتم التوصل اليها في المؤتمر الدولي.
والجدول الزمني لهذه المراحل بات منظورا، فخلال نيسان/ أبريل المقبل من المنتظر أن تجتمع مجموعة دعم دولية – عربية للمبادرة تضم الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي (الولايات المتحدة وروسيا والصين وفرنسا وبريطانيا) و"رباعية عربية" تضم العربية السعودية ومصر والأردن والمغرب، وسوف تضع هذه المجموعة جدول أعمال للمؤتمر الدولي المتوقع انعقاده في حزيران/ يونيو أو تموز/ يوليو المقبلين في العاصمة الفرنسية. وعلى ذمة "ذى تايمز أوف اسرائيل" في منتصف الشهر الجاري لن يحضر هذا الاجتماع مسؤولون من دولة الاحتلال أو من منظمة التحرير. وسوف يعرض مشروع قرار يتضمن ما يتفق عليه المؤتمر الدولي على مجلس الأمن الدولي قبل نهاية العام الحالي.
وعقد مؤتمر دولي يوفر رعاية دولية لمفاوضات فلسطينية مع دولة الاحتلال كان وما زال مطلبا لمنظمة التحرير وقيادتها، ولم تنجح دعوة سابقة لقيادة المنظمة لعقد مؤتمر كهذا في موسكو، ولبت المبادرة الفرنسية هذا المطلب.
وسوف يعتمد نجاح المبادرة على انعقاد المؤتمر في حد ذاته وعلى نجاحه في التوصل إلى توافق دولي – عربي على بنود المبادرة، وإذا فشلت فرنسا في عقد المؤتمر أو فشل المؤتمر في التوصل إلى اتفاق أو توافق لن تكون هناك حاجة للذهاب إلى مجلس الأمن الدولي، وسوف تنهار المبادرة الفرنسية، وينهار معها رهان قيادة منظمة التحرير عليها.
ومعارضة دولة الاحتلال ليست العقبة الوحيدة أمام نجاح المبادرة التي تعدها "مقاربة خاطئة" للموافقة مسبقا على نتائج لا تتمخض عن مفاوضات، لتعطي بذلك لمفاوض منظمة التحرير عذرا لعدم التفاوض المباشر مع دولة الاحتلال، مع أن بنود المبادرة التي تسربت إلى الإعلام تنص على إجراء مفاوضات فلسطينية – إسرائيلية مباشرة في إطار المؤتمر الدولي.
فالولايات المتحدة التي سبق لها أن عارضت مشروع قرار فرنسي في مجلس الأمن الدولي لم تختلف بنوده عن مضمون المبادرة الفرنسية الحالية تمثل عقبة أخرى، فهي لم تعلن تأييدها الصريح للمبادرة، لكنها لم تعلن رفضها لها كذلك، غير أنها في كلا الحالين لن تكون مهيأة لدعم المبادرة عشية سنة انتخابية لإدارة جديدة، بالرغم من أنها تركت خياراتها مفتوحة.
فعندما سئل وزير الخارجية الأميركي جون كيري وهو في باريس في الثالث عشر من الشهر الجاري عما إذا كانت بلاده مستعدة للتعاون مع المبادرة الفرنسية قال إن "الولايات المتحدة ... تظل ملتزمة التزاما عميقا بحل الدولتين، فهذا الحل اساسي بصورة قطعية ... ولا يوجد أي بلد أو أي شخص يمكنه منفردا أن يجد حلا لذلك، فهذا سوف يحتاج الى المجتمع العالمي، وسوف يتطلب دعما دوليا".
وفي تصريح كيري هذا اعتراف صريح بفشل الاحتكار الأميركي لرعاية مفاوضات السلام منذ أوائل تسعينيات القرن العشرين المنصرم، وفيه كذلك تاييد صريح لكنه غير مباشر لانعقاد مؤتمر دولي يمثل إطارا لما سماه "المجتمع العالمي" وما وصفه ب"الدعم الدولي"، وانعقاد مثل هذا المؤتمر هو حجر الزاوية في المبادرة الفرنسية.
غير ان هذه المرونة في الانفتاح الأميركي على المبادرة الفرنسية محكومة بسقف زمني مدته سنة واحدة باقية لإدارة كيري ورئيسه باراك أوباما في الحكم، كما أنها قد تكون مرونة تكتيكية تساير التأييد العالمي المتزايد لعقد المؤتمر الدولي لكنها مرونة تتوقف على أبواب مجلس الأمن الدولي إذا ما تحولت المبادرة الفرنسية إلى مشروع قرار أممي، كما حدث في المحاولة الفرنسية السابقة.
ومصير المبادرة الفرنسية في أحسن الأحوال هو ان تتحول إلى قرار يصدره مجلس الأمن الدولي من دون أي آلية دولية لتنفيذه على الأرض، ليضاف إلى عشرات قرارات الأمم المتحدة المؤيدة للحق العربي في فلسطين والتي ما زالت تنتظر التطبيق بإرادة وطنية فلسطينية واخرى قومية عربية وثالثة إسلامية، طالما "المجتمع الدولي" عاجز أو غير راغب في تطبيق الشرعية الأممية التي تمثلها تلك القرارات.
إن السقف الزمني المحدد في المبادرة الفرنسية بثمانية عشر شهرا للتوصل إلى تسوية متفاوض عليها فشلت كل الأطراف المعنية في التوصل إليها منذ مؤتمر مدريد عام 1991 سوف تتحول عمليا إلى غطاء فلسطيني متجدد للاستمرار في الاستعمار الاستيطاني للقدس والضفة الغربية.
بقلم نقولا ناصر
كاتب عربي من فلسطين