سمير عادل
لحين هذه اللحظة، حققت حركة حماس هدفيها، الأول تصدرت المشهد السياسي الفلسطيني بعد شعورها بالتهميش خلال كل الفترة التي مضت، والثانية إعادة تحريك القضية الفلسطينية وانتشالها من الركود أو بالأحرى إنقاذها من محاولات تفريغها من محتواها وتحويلها الى مجموعة من الصفقات السياسية وتقديم الإغراءات الاقتصادية الى هذا الطرف أو ذاك، التي كانت صفقة القرن واتفاقيات إبراهام تتويجا لها. بيد أن النجاح الذي حققته حركة حماس يعتريه مخاطر جدية قد يكون ثمنها هو وجودها السياسي.
ومن الجانب الإقليمي والدولي، سواء كانت ايران متورطة في عملية حماس في السابع من أكتوبر أو لم تكن متورطة، فان ما تشهده منطقتنا بوقوفها على حافة الهاوية يٌعدّ أمر لا مفر منه، وهو ليس بسبب ايران أو كما يسمونه في الأعلام الغربي والإسرائيلي بحلف الشر أو في بعض الإعلام القومي والعربي بخط المقاومة، بل لان ما جرى، إنَّما يحدث في ظل إعادة تقسيم العالم وصياغة معادلات سياسية جديدة، وللشرق الأوسط حصة كبيرة فيها، وكما تحدثنا من قبل فإنَّ ما نشهده اليوم من إرسال البوارج الحربية الأمريكية والفرنسية والإيطالية والبريطانية هو انعكاس مباشر لتداعيات الحرب الأوكرانية أو امتدادا لها.
إن تفسير ما فعلتها حماس هو من أجل الحيلولة دون إتمام عملية التطبيع بين إسرائيل والسعودية، هو في الحقيقة تحليل سطحي لا يميط اللثام عن مجمل الصراع الجاري اليوم في الشرق الأوسط، وفي نفس الوقت فإنَّ حصر كل ما يجري من حرب دموية ورجعية بأن إيران هي من خططت لذلك، فهو محاولة من اجل طمس عدالة القضية الفلسطينية وإنكار وجود شعب يعاني في كل لحظة ظلم قومي سافر قل نظيره في التاريخ الحديث.
إنَّ جميع الأطراف الإقليمية والدولية تورطت مسبقاً، بما فعلته حماس، وأن خطورة الأوضاع سواء توسعت رقعة الحرب أو ظلت في إطارها الحالي، تكمن في انفلات عقال الرجعية في المنطقة سواء كانت الإسلامية أو تمدد السياسة الهيمنة الأمريكية المشهود لها بمعاداتها؛ حتى النخاع لأماني ونضال الجماهير من أجل حياة أفضل، وقد عشنا وما زلنا نعيش فصولها في العراق.
لا تستطيع الأطراف الفاعلة، والتي تشعر أن الأرض تتحرك تحت أقدامها، أن تقف مكتوفة الأيدي إزاء ما يحدث الآن في غزة، وذرائع جميع تلك الأطراف ــ التي تذرف الدموع الساخنة بحق ــ ليس هو بسبب أعمال القتل اليومية والدمار بحق أهالي غزة، ولا الحصار الوحشي المفروض عليها، مثلما فعلوا بنا في العراق لمدة ثلاثة عشر عاما، وكل ما نراها من تلك الدموع الغزيرة التي تذرف من عيون عبد الله لهيان وزير الخارجية الإيراني وقادة حزب الله وبايدن وبلينكن وزير خارجية أمريكا وماكرون رئيس فرنسا وسوناك رئيس وزراء بريطانيا، فهي ليست من اجل أهالي غزة، وإنما بسبب تورط كل واحد من أولئك الذين يمثلون حكوماتهم بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وانتهاكات لجميع حقوق الإنسان بإشكال مختلفة سواء في ايران أو في العراق أو لبنان أو فلسطين أو في أوكرانيا أو في أفريقيا، إنَّ تلك الدموع الساخنة، تنزل لِما ستؤول إليه الأوضاع، وان وضع هؤلاء يشبه وضع ذاك الشخص الذي داس على لغم بالصدفة وشعر به، فهو لا يستطيع التراجع ولا يستطيع التقدم ولا يمكن الوقوف عليه الى ما لا نهاية، فنتائج الضغط الذي يمارس على إسرائيل من قبل تركيا ومصر والأردن وقطر والسعودية للحيلولة دون القيام بالهجوم البري على غزة، يعني بالنسبة لإسرائيل، تقويض مكانتها في المنطقة، وفي النهاية يكون وضعها مثل ذاك التاجر المفلس فقد مصداقيته في السوق نتيجة صفقاته الخاسرة ليمضي في سبيل حاله ويعيش بخبز يومه، هذا من جهة ومن جهة أخرى، فإنَّ عدم دخول حزب الله الذي هو الوكيل الحصري لإيران في الحرب في حال شنت إسرائيل الهجوم البري على غزة، فإنَّ ذلك يعني أن وضع حزب الله على الساحة اللبنانية والمنطقة سيقزّم في المعادلة التي يراد صياغتها، على أنَّ وضع حزب الله لا يحسد عليه، فهو محاصر بنقمة شعبية من سكان لبنان حيث تشير أصابع الاتهام إليه بانه هو سبب الأزمة الاقتصادية الخانقة والأزمة السياسية العاصفة، وفي نفس الوقت فإنَّ إسرائيل تبدو وكأنها تزحف الى أبوابه. فالخيار بين دخول الحرب من عدمه هو خيار صعب لأنَّ أحلاهم مر.
وفي نفس الوقت سيؤدي تدمير حماس وتحييد حزب الله إلى تراجع مكانة إيران، وخاصة بعد إعادة الحديث حول تفعيل بقية أجزاء اتفاقيات إبراهام. هذا على الصعيد الإقليمي
أمّا على الصعيد الدولي فإنَّ حلف الناتو بقيادة أمريكا الذي يتواجد أبرز ممثليه العسكريين في المنطقة هو الآخر، سيعاني من أوجاع ضربة جديدة لو لم تقوم إسرائيل بحملتها العسكرية على غزة، ليعزز تراجعه بعد ما فشل في تحقيقه نصراً ملموساً في أوكرانيا.
وإذا ما نظرنا الى اللوحة السياسية من زاوية اخرى، فان مشروع بايدن أو كما سمي (طريق بايدن) الذي طرح مؤخرا في اجتماع دول العشرين الصناعية الكبرى في الهند، بحاجة الى تغيير المعادلة السياسية في منطقة الشرق الأوسط، وهو المشروع الذي ينافس طريق الحرير أو (الطريق والحزام) للصين، وان ما يحدث اليوم من عرض العسكرتاريا في المنطقة هو جزء من مشروع أكبر لاحتواء النفوذ الصيني والروسي ولجم حلفائها الإقليميين في المنطقة. ولذلك نجد أن الولايات المتحدة الأمريكية بجميع مؤسساتها البحثية (انظروا سلسلة من المقالات التي طرحت خلال أسبوع بعد السابع من أكتوبر في مجلة فورين أفيرز) والسياسية والعسكرية والأمنية والإعلامية والدعائية تؤيد ما ذهبت إليه (إدارة بايدن) بالإعلان عن الدعم المطلق لدولة إسرائيل للجم إيران وحزب الله، وإرسال أكبر حاملات لطائراتها للمنطقة وغير مكترثة أن تكون قواعدها العسكرية المنتشرة في الشرق الأوسط أهدافاً عسكريةً للمليشيات التابعة لإيران.
سردية الرواية الإسرائيلية:
"من ليس معنا فهو ضدنا"، هذا ما قاله جورج بوش الابن بعد أحداث الحادي عشر من أيلول من عام ٢٠٠١ على اثر تفجير البرجين في مدينة نيويورك الذي أوقع ٥٠٠٠ قتيل من الأبرياء المدنيين، ولم يكتف بوش بذلك بل راح ليعلن بأنه "يقود حرب صليبية" ضد معارضي سياسة الإدارة الأمريكية والتي وضع اسم حركي لها وهو الإرهاب. وعلى انغام تلك السردية لرواية واشنطن، القيت آلاف من أطنان القنابل على أفغانستان، والعراق التي جاءت بعد حصار اقتصادي قاسي ثم غزوهما واحتلالهما، وحينها أيضا نسج الحديث كما ينسج اليوم من حكايات ومقالات وأحاديث وأقاويل عن فشل الأجهزة المخابرات الأمريكية ومؤسساتها الأمنية في حماية الولايات المتحدة الامركية، وهو شبيه لما ينسج اليوم عن (آلة دولة إسرائيل وأجهزتها الأمنية)، وقيل حينها كما يقال اليوم عن هيبة دولة إسرائيل بأنها تمرغت بالوحل، إلا أنَّ الحقيقة هي أنَّ من يمسك بزمام كتابة الرواية وطريقة سردها، هو من يصوغ الحقانية، حقانية الرواية التي سيسردها و يعبئ الرأي العالمي حولها، على ضوء مصالحه. فأمريكا صاغت "حقانيتها" الزائفة والخادعة والكاذبة عبر روايتها بأن قيادتها للعالم أعلنت الحرب على الإرهاب وستجلب السلام والديمقراطية وعبر فرض عالم أحادي القطب، واليوم تصيغ إسرائيل روايتها لمسح وجود شعبا بأكمله وطمس كل حقوقه، والنهوض من جديد من ركام ما أحدثته عملية حماس لفرض معادلتها في المنطقة كما سماها بنيامين نتنياهو صياغة شرق أوسط جديد في كلمته الأخيرة بعد إعلان حربه على سكان غزة.
وعلى الرغم من أنَّ عالم اليوم أصبح أصغر ما يمكن بسبب تطور شبكة الأنترنت ووسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي، ومن ثم لا يمكن لأحد حجب الحقائق الى ما لانهاية، أو كما يقول المثل القائل أنَّ حبل الكذب قصير، إلا أنه هناك من يحاول تسويق رواية واحدة حسب ما تقتضيه مصالحه عبر تشديد قبضته على العالم الذي يقولون عنه افتراضي، وقد بينت الحرب الروسية على أوكرانيا كم أن ذلك العالم الافتراضي بالإمكان حجبه، وتسويق رواية واحدة فقط ومن جانب واحد، ولن يسمح لرواية أخرى أن تجد طريقها الى الآخرين ليدركوا ما يدور حولهم.
وعلى الرغم من تبجح الغرب بالديمقراطية وحرية التعبير وحقوق الإنسان، إلا أنَّه في الأزمة الأوكرانية تم حجب كلما هو روسي، وتم تسويق رواية واحدة، وهي رواية حلف الناتو عن الصراع الدائر بين روسيا من جهة وأمريكا وحلفائها من جهة أخرى، واكثر من ذلك تم تزييف العديد من الحقائق على الأرض من أجل الابتزاز العاطفي والوجداني لمواطني حلف دول الناتو كي يتم الاستحواذ على الضرائب التي يدفعونها أو تحميلهم تكاليف ارتفاع الأسعار الطاقة والتضخم نتيجة تلك الحرب، وبالتالي دفعها على شكل فاتورة لتمويل الحرب بالوكالة في أوكرانيا.
المسلسل يتكرر، وبنفس السيناريو الأوكراني، للرواية الإسرائيلية في حربها الدموية على أهالي غزة، بحجة الانتقام من حماس التي شنت عملية عسكرية عليها في السابع من أكتوبر.
وسائل الأعلام الغربية التقليدية لا تسوق الرواية الإسرائيلية عما حدث فحسب، بل الوسائل غير التقليدية مثل الفيسبوك والإنستغرام التي أخطر وأكثر انتشاراً وتأثيراً على الراي العام هي الأخرى، حجبت كلما ما يفند الرواية الإسرائيلية أو حتى يبدي التعاطف مع أهالي غزة أو يعلن عن غضبه وشجبه لارتكاب جرائم حرب في غزة ويتجاوز حق إسرائيل بالدفاع عن نفسها.
ما وراء سردية رواية إسرائيل بمساواة حماس بداعش:
لم يأت عبثا أبداً سقوط كملة (داعش) في الخطاب السياسي والدعائي الرسمي لدولة إسرائيل، وتبني نفس الخطاب من قبل البيت الأبيض وإدارة بايدن لوصف عملية حماس في إسرائيل. وفي الحقيقة فإنَّ تكرارا كلمة (داعش) على لسان جميع المسؤولين الرسميين وغير الرسميين من المحللين الإسرائيليين، تم إنتاجه بعناية فائقة وهو جزء من سياسة مقصودة لتحقيق ثلاثة أغراض، الأول التغطية على فشل الالة العسكرية الإسرائيلية وأجهزتها الأمنية والاستخباراتية على الأقل أمام الرأي العام الداخل الإسرائيلي، والثانية لتعبئة الرأي العالمي من أجل تنظيم حملة عسكرية دولية تساندها في الحرب التي تحتاج إليها إسرائيل والثالثة للتعمية على ظلمها القومي السافر على الشعب الفلسطيني.
والحقيقة تقال إن حماس ليست داعش، لان حماس تستند على نفس الأرضية التي تستند عليها دولة إسرائيل. فاذا كانت حماس اختطفت مدنيين من المستوطنات في غلاف غزة، فدولة إسرائيل تعتقل أكثر من ٧٠٠٠ شخص وغالبيتهم محكوم عليهم بمئات السنين بالسجن لأنهم ألقوا بحجارة على قوات الاحتلال، أو لأنَّهم عبروا بأشكال معينة دون استخدام العنف المسلح عن رفضهم لسياسة الاحتلال، والسؤال هو: أوليس هؤلاء السجناء رهائن مدنيين؟، أما اذا افترضنا أنَّ حماس قتلت بدم بارد مستوطنين، فأن نفس دولة إسرائيل تقتل يوميا الفلسطينيين في مناطق ومخيمات الضفة الغربية، بل وتعمل على هدم بيوت الأسر التي ينتمي إليها كل شخص يقوم بعملية ما ضد المستوطنين أو قوات الاحتلال.
وبالتأكيد نحن لا نؤيد سياسة حماسة في قتل المدنيين، ولكن إذا ما تم وصف حماس بداعش فعلينا وصف دولة إسرائيل بنفس الوصف، وأن رواية إسرائيل عن حماس وسرديتها تساوي رواية حماس عن دولة إسرائيل، والطرفان يبرران قتل المدنيين عبر حقانية سردية روايتهما المظللة.
وبالنسبة للإدارة الأمريكية وحلفائها الغربيين استهوتهم رواية إسرائيل حول حماس، فهرعت دون تردد بتبني تلك الرواية الإسرائيلية من أجل تبرير تعبئتها العسكرية والدعائية لأرسال جيوشها إلى المنطقة، فكما فعلت في تحالفها الدولي لمحاربة الإرهاب أو محاربة داعش، تفعل اليوم، ومثلما جاء على لسان بايدن: يجب تدمير حماس، أو تدمير داعش. لان روايته أي التحالف الغربي عن القانون الدولي والسيادة التي جاءت في حلفها ضد روسيا في أوكرانيا لا تؤتي أوكلها في الحرب الدموية بين إسرائيل وغزة، فإسرائيل هي التي لا تحترم القانون الدولي ولا تلتزم بقواعد الحرب وحكمت على كل غزاوي بالإعدام بتهمة انتمائه لحماس أو يحتضن حماس أو شارك في انتخابات عام ٢٠٠٦ عندما فازت حماس - تابعوا غالبية من استضافتهم (I24 News Arabic) من العسكريين والمحللين الإسرائيليين أو العديد من القنوات العربية-.
وهكذا فإن الغرب الرسمي بحكوماته ومؤسساته الإعلامية لا يسمح لغير سردية رواية إسرائيل أن تجد مكاناً لها في الوسائل الإعلام التقليدية وغير التقليدية، لتبرير تدخلها العسكري في المنطقة ودعمها غير المشروط لدولة إسرائيل كما فعلت في أوكرانيا.
براءة القضية الفلسطينية وعدالتها:
إنَّ عدالة القضية الفلسطينية، بريئة من جميع الجرائم بحق الإنسانية التي ترتكب باسم الشعب الفلسطيني، وبريئة عن الجرائم التي تودي بحياة المدنيين الإسرائيليين الذين في صفوفهم من يؤيدون حق الشعب الفلسطيني بحريته واستقلاله، وفي تأسيس دولته المستقلة، وهم أيضا جزء من جبهة إنسانية عالمية تقف بوجه بربرية دولة إسرائيل وداعميها. ولكن للأسف أن روايتهم أي رواية أولئك الإسرائيليين بدفاعهم عن عدالة القضية الفلسطينية هي جزء من روايتنا الإنسانية التي تحجبها ليس فقط إعلام الغرب بل أيضا الذي يصطادون في المياه الآسنة للكراهية والعنصرية، فبغير تلك المياه سيقطع الهواء عن يتامى القوميين الذين سلموا بنادقهم للإسلاميين، ومع تجفيف تلك المياه لن تقوم لهم قائم. فكما فعل صدام حسين ومعمر القذافي والأسد بفتح زنازينهم ومعتقلاتهم لمعارضيه تحت عنوان الدفاع عن فلسطين تمضي التيارات الإسلامية سواء في السلطة كما في إيران ولبنان والعراق أو في المعارضة يحذون حذو سلفهم من القوميين.
إنَّ تأسيس دولة فلسطين مستقلة وإنهاء الظلم القومي وإحلال الأمن والأمان ينعم فيه جماهير المنطقة، بحاجة اليوم أكثر من أي وقت مضى الى تيار آخر وجبهة أخرى تقف بوجه جميع الجرائم التي ترتكب بحق الإنسانية في غزة وتوقف الحرب الدموية الرجعية بين إسرائيل وحماس