
سمير عادل
انتهى "العرس الانتخابي" في الحادي عشر من تشرين الثاني-نوفمبر. وما سُمّي بـ”العرس الانتخابي” قد يتحوّل إلى مأتم سياسي للذين طقطقوا الكؤوس احتفالًا بنشوة الانتصار الانتخابي، في ظل انتهاء مرحلة ادارة الازمة السياسية في العراق.
بالتأكيد، فإن نتائج هذه الانتخابات تُسعد ما يُسمّى بـ”البيت الشيعي” الذي استولى على حصة التيار الصدري بعد إقصائه عن تشكيل الحكومة وإفشال ثورته العاشورائية عقب انتخابات ٢٠٢١. مشاعر عدم "الرضى" او "الانصاف" او "تأنيب الضمير" التي هي مقولات غريبة ان وجدت عن ذلك البيت لدى خصوم التيار الصدري داخل البيت الشيعي، لأنهم استحوذوا عليها دون وجه حق، نقول زالت تلك المشاعر اليوم. وفي هذه الانتخابات تحديدًا، أُزيحت الغُمة عن صدورهم، وأصبح الشعور بالرضا عن النفس نعمة يتذوقونها في الدنيا قبل الآخرة.
وفي المقابل، لا أحد داخل البيت الشيعي يستطيع بعد الآن أن يمنّ على محمد شياع السوداني رئيس حكومة تصريف الاعمال الحالية، كما كانوا يفعلون؛ فهو الذي لم يكن يملك سوى مقعدين، وعين في منصب رئيس الوزراء في غفلة من الزمن مثل أسلافه السابقين بعد الغزو والاحتلال، أصبح اليوم اي السوداني يمتلك أغلبية داخل البيت الشيعي نفسه، ذلك البيت الذي عاد إليه صاغرًا بعد محاولات التمرد عليه ومع ذلك، فهو اليوم يملك أكثر من خمسين مقعدًا. وهكذا: لا أحد أفضل من الآخر.
و يكون مجموع مقاعد البيت الشيعي يكون العدد ١٨٧ مقعدًا، وهو ما يشكّل الكتلة الأكبر في عملية تشكيل الحكومة. لكن القصة لا تنتهي هنا، ولا يعني امتلاكهم لأكبر عدد من المقاعد أنّه من السهولة بإمكانهم بتشكيل الحكومة المقبلة.
ففي العراق، حيث أرسى الغزو والاحتلال عملية سياسية على المحاصصة الطائفية والقومية، ليست الأغلبية البرلمانية هي التي تحدّد شكل الحكومة، بل تتدخل عوامل أخرى أكثر حسمًا؛ أهمها التوازنات الإقليمية، ثم رضا الأطراف القومية والطائفية الأخرى بشأن حصصها وأسهمها في الحكومة ومؤسسات الدولة التشريعية والقضائية والتنفيذية.
اليوم قبل من أي يوم اخر يرتبط العامل الإقليمي بمسألتين أساسيتين: الأولى هي الاستراتيجية الأميركية الجديدة في الشرق الأوسط، التي تقوم على العودة بقوة إلى المنطقة بعد مرحلة الانكفاء النسبي. والثانية هي تراجع النفوذ الإيراني مقارنة بالسنوات السابقة.
والحكومة العراقية الجديدة التي يسعى البيت الشيعي إلى تشكيلها، يجب أن تأخذ بنظر الاعتبار مصالح أربع قوى إقليمية ودولية: أولًاالولايات المتحدة، ثانيًا تركيا، ثالثًا ما يسمى بالمحيط العربي، ورابعًا إيران. وكل هذه القوى تمتلك نفوذًا مباشرًا أو غير مباشر على القوى السياسية المحلية التي استحوذت، بكل الطرق الممكنة، على نتائج الانتخابات.
لا تعني الولايات المتحدة الأميركية النتائج التي أفرزتها الانتخابات بحد ذاتها، بقدر ما يهمّها نجاح العملية الانتخابية كشكل، وهو ما عبّر عنه مبعوثها مارك سافيا الخاص الى العراق الذي سارع إلى مباركة الانتخابات بغضّ النظر عن نتائجها. بالنسبة لواشنطن، يُراد لهذا "النجاح" أن يكون دليلًا تقدّمه للعالم على أن ما يُسمّى "العملية الديمقراطية" في العراق ليس سوى إحدى "مِنَن" و"فضائل" الغزو والاحتلال الأميركي، الذي يُراد له أن يُظهر العراق كأنه بات ضمن خانة "الأمم الديمقراطية".
ولهذا رأينا مارك سافيا المبعوث الأمريكي الى العراق يتسابق في تقديم التهاني مع الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، رغم أن شهادة الأمم المتحدة — كما قلنا سابقًا —" مجروحة" تجاه الانتخابات العراقية، مهما كانت نتائجها أو نسب المشاركة فيها.
أمّا السبب الثاني لأهمية هذه الانتخابات بالنسبة للولايات المتحدة، فهو رغبتها في معرفة القوى التي ستتعامل معها في المرحلة المقبلة، في ظل التحولات الكبيرة التي تشهدها المنطقة: فالنظام السوري تغيّر جذريًا، ورحل الأسد ليحلّ محله نظام آخر، ورئيس جديد استقبلته واشنطن في البيت الأبيض بوصفه أحد “فرسان ترامب” الجدد. وفي لبنان، تشكّلت حكومة بعد قصّ أجنحة حزب الله في غالبية مؤسسات الدولة. وفي الوقت نفسه، تتراجع إيران بصورة واضحة، فتصريحات مسؤوليها تجاه العراق وسوريا ولبنان أصبحت مضطربة ومتناقضة، وتعكس انقسامات داخل مراكز القرار الإيراني، إلى جانب غياب رؤية أو استراتيجية واضحة بعد سلسلة الضربات تلك لاعادة هيكلة نفوذها في المنطقة. وكان آخر تلك الضربات تخلّي حزب العمال الكردستاني (PKK) عن السلاح، وهو السلاح الذي كان لسنوات الذراع الخفيّة التي عزّزت النفوذ غير المباشر وغير المرئي لإيران في سوريا والعراق — وهي حقيقة غابت عن كثير من التحليلات الإعلامية والسياسية رغم أهمّيتها البالغة بالنسبة لمعادلة النفوذ الإيراني.
ونظامها أي النظام السياسي في إيران هو الآخر يمسك قبعته؛ أي يعيش حالة ارتباك شديدة. فهو يتخبط بين مواجهة الوضع الداخلي المتأزم اقتصاديًا، وتصاعد رقعة الاحتجاجات العمالية والجماهيرية المطالِبة بتحسين شروط الحياة، وغياب الانسجام السياسي داخل الطبقة الحاكمة لبلورة رؤية واضحة خارج التخوين والإعدامات، وخصوصا في ظل الحديث عن غياب الاتفاق والالتفاف حول من ينوب منصب المرشد الاعلى اثر الحديث عن رحيله بسبب عمره وكبر سنه، وبين التمسك بخيار التخصيب النووي الذي أصبح محل خلاف حادّ وقضية إثبات وجود بالنسبة للجمهورية الإسلامية ومريديها، و أدى إلى انقسامات داخلية.
ولا شكّ أن إيران ترزح تحت ضغوط أمريكية كبيرة جرّت وراءها أوروبا، الأمر الذي ألقى على كاهلها عبئًا جديدًا وثقيلاً. ولهذا فهي لا تريد، في هذه المرحلة، خلق أجواء سياسية في العراق قد تُغلق الأبواب عليها كما حدث في لبنان أو كما فُرض عليها في سوريا. فهي تدرك جيدًا أنّ هناك تيارًا داخل الطبقة الحاكمة في الولايات المتحدة، متناغمًا مع إسرائيل، يدفع باتجاه إسقاط النظام الإيراني باعتباره خيارًا "أقل كلفة" من الحصار والعقوبات والاتفاقات، وفق ما يطرحه ممثلو هذا التيار في مراكز الدراسات و البنتاغون والكونغرس. كما تدرك كذلك أن الداخل الإيراني بدأ يتفكك رويدًا رويدًا، كما أشرنا سابقًا إلى قضية تجميد قانون الحجاب.
أي، وبصيغةٍ أخرى، يمكن القول إنّ "الإطار التنسيقي" — وهو المظلة السياسية الرسمية للإسلام السياسي الشيعي — يعيش وضعًا لا يُحسَد عليه. فمشهد البلطجة الأمريكية على مستوى العالم، كما نراه في البحر الكاريبي، والتصعيد في دعايتها الحربية تجاه فنزويلا، إضافة إلى استهتار حليفتها إسرائيل في المنطقة، كل ذلك يضع الإطار التنسيقي وداعمه الإقليمي ايران، في دائرة القلق والخوف والترقّب، وانتظار دوره المحتمل في تصفية الحساب معه. وكل التصريحات والادعاءات التي تطلقها الميليشيات — التي حصلت على مقاعد في البرلمان الجديد — بشأن رفضها نزع سلاحها وعدم خضوعها للإملاءات الأمريكية، لا تعدو كونها بهلوانيات دعائية. فهي رسائل موجّهة إلى الداخل العراقي قبل الخارج، مفادها أنها ما زالت موجودة، وأنه لا أحد قادر على نزع نفوذها وامتيازاتها أو إقصائها من المشهد السياسي. ولا يتجاوز الأمر كونه استعراضًا سياسيًا لا أكثر.
وليس هذا وحده ما يواجه الإطار التنسيقي، بل هناك عاملان آخران، أحدهما أصعب من الآخر. الأول هو الأوضاع الاقتصادية الصعبة في ظل الحديث عن انخفاض أسعار النفط، ما يهدّد معاشات ورواتب أكثر من أربعة ملايين عامل وموظف، إضافة إلى تعطيل عجلة الاقتصاد. ويأتي ذلك وسط غياب رؤية اقتصادية لدى هذه الطبقة البرجوازية الطفيلية، وافتقارها إلى أي برنامج اقتصادي لحل مشكلة البطالة، التي تُعدّ اليوم أكبر وأخطر تهديد لها بعد أن استفاقت من نشوة "انتصارها الانتخابي".
وقد بدأت بوادر التظاهرات والاحتجاجات تلوح في الأفق؛ بدءًا من إضرابات المعلمين، رغم محاولات احتوائها وتهدئتها مؤقتًا، إضافة إلى احتجاجات الخريجين. وكما حدث في انتخابات 2018، حين فازت القوى الشيعية ذاتها وتمّ حرق صناديق الاقتراع عقب قرار إعادة الفرز اليدوي، اندلعت موجة واسعة من الاحتجاجات الشعبية في المدن الجنوبية للمطالبة بفرص العمل والخدمات. واليوم يبدو أن السيناريو نفسه بدأ يتكرر بعد هذه الانتخابات.
اما العامل الاخر هو انتظار التيار الصدري الذي بات في اصعب حالاته وليس لها أي مفر سوى كسر انحسارها وانعزالها عن الانخراط من جديد في العملية السياسية. فبقائها على حالها دون أي تدخل وخاصة جاءت نتائج المفوضية والانتخابات ضربة سياسية جديدة لسياسة مقاطعتها للانتخابات وبعكس توقعاتها وتحليلاتها. ومن اجل إيقاف عجلة كبر كرة الإحباط في صفوفه ووضع حد للاستقالات في صفوفه والحفاظ على ما يمكن الحفاظ عليه من تماسك، فهو يتربص بفارق الصبر لما سيؤول اليه القرارات الامريكية والاحتجاجات الجماهيرية.
ميزة الوضع السياسي في العراق، منذ إرساء العملية السياسية بعد احتلال 2003، أنّه لا وجود لحلول حقيقية للأزمة السياسية التي تعصف بالطبقة الحاكمة؛ بل هناك “فنّ إدارة الأزمة” الذي تتولّى هندسته القوى الإقليمية والدولية.
إلّا أنّ ما يشوه تلك الميزة في الوضع السياسي هذه المرّة هو غياب "ربّان" هذه الإدارة، في ظل التحوّلات الكبيرة التي تمرّ بها المنطقة—وهي التحولات التي أشرنا إليها سابقًا.
والمؤكد أنّ الأزمة ستستمرّ بل ستتعمّق وتزداد حدّة، مع استمرار منظومة الفساد نفسها، وتوسّع دائرة الاحتجاجات الشعبية. وهذه الأخيرة—إذا ما تماسكت، ونجحت في بناء بوصلتها التنظيمية والسياسية—ستكون القوة الوحيدة القادرة على لعب دور رئيسي في أي معادلة سياسية جديدة.














