منذ بدايات سنة 20122، تقريبا، اتضح تعدد اللاعبين الخارجيين على الميدان الليبي، وصرت أقول إن أبرز لاعِبَيْن على هذا الميدان، وعلى خلاف ما قد يبدو، هما قطر والسعودية.
تلعب قطر بشكل مباشر كدولة، ومهمتها تمكين الإخوان المسلمين من التغلغل في مؤسسات الدولة، أي مؤسسات السلطة، وإيصالهم إلى سدة الحكم، وهي تمثل في هذا دور الوكيل المنوط به تنفيذ المخطط الغربي، الأمريكي تحديدا، الذي يميز بين “الإسلام المعتدل” الذي يرى في الأخوان المسلمين ممثلا له، لأنهم يقبلون بالدخول في الانتخابات [يقبلون بالدخول في الانتخابات، لكنهم يرفضون الديموقراطية من حيث المبدأ]، والإسلام العنفي المتطرف الذي يلجأ إلى السلاح والإرهاب.
أما السعودية فلا تتواجد على الميدان بشكل مباشر كدولة وإنما عبر الحركة الوهابية. وقد اختارت مسلكا آخر وزوايا أخرى لإعمال نفوذها، وهو تغلغل هذه الحركة، ليس في مفاصل مؤسسات الحكم تحديدا، وإنما من خلال التسرب إلى المؤسسات الدينية والمساجد وبعض أجهزة الإعلام. أي التمكن من المجال الديني المؤسسي والشعبي العامل في المجال الاجتماعي العام ومحاولة تغيير المذهب الديني السائد في ليبيا، وهو المذهب المالكي. وقد حققت في ذلك نجاحا خطيرا.
والتسلل الوهابي إلى ليبيا يشكل حالة خاصة متميزة. فتغلغله في مصر، مثلا، تم عن طريق تأثر أعداد كبيرة من المصريين العاملين في السعودية الذين رجعوا إلى مصر ونشروا الدعوة هناك. أي أنه، في ظني، لم يتم بناء على برنامج دقيق وخطة محكمة. بالنسبة إلى ليبيا لا توجد عمالة ليبية في السعودية تكون حاملة وناشرة لهذا المذهب. فكيف تم النفوذ؟!.
يبدو لي أن التسرب الوهابي إلى ليبيا تم وفق خطة عمل مدروسة ومحكمة في دوائر القرار السعودي. لقد اتخذ هذا القرار وشُرِع في تنفيذه في السنوات الأولى من عقد ثمانينيات القرن العشرين كردة فعل ضد مزايدات القذافي ومشاغباته الغوغائية التي كان يمارسها من خلال تنظيم مظاهرات تقوم بها أعداد كبيرة من عناصر اللجان الثورية الليبية في مواسم الحج في مكة. وكذلك مطالبته بتخليص مكة من السيطرة السعودية، باعتبارها تخص كل المسلمين، وتحويلها إلى دولة أو دويلة مستقلة على غرار الفاتيكان. إضافة إلى مطالبته بتغيير اسم الدولة لأنه منسوب إلى قبيلة وليس إلى منطقة جغرافية، وحملات إعلامه، وحتى خطاباته هو شخصيا، على دول الخليج عامة، وفي القلب منها السعودية، ووصف حكامها بأشنع الأوصاف التي من ضمنها “خنازير الجزيرة”، وكذلك التركيز على ما يحدث في ما يسمى بـ “المنطقة الشرقية” في السعودية ذات الأغلبية الشيعية والتي يقال أنها تعاني، بسبب شيعيتها، تهميشا وتمييزا.
ومن المؤكد أن عزم التغلغل والانتقام من القذافي ببطء عن طريق استفحال الحركة الوهابية ازداد مضاء على أثر المحاولة الفاشلة لاغتيال الملك عبد الله سنة 2003 التي اتهم القذافي بأنه وراءها.
ولقد أسهم القذافي نفسه، سهوا، في هذا التسرب منذ فترة مبكرة من خلال نزوعه إلى خلخلة المؤسسات أو تدميرها كليا، ومنها المؤسسة الدينية الرسمية التقليدية. فبدعوى أنه “لا كهنوت في الإسلام” قال أن أي شخص يحفظ القرآن يمكنه أن يتصدى للصلاة بالناس في الجامع، وليس ضروريا أن يكون إماما معتمدا من قبل المؤسسة الدينية الرسمية. ما أسهم في ظهور “شيوخ سائبين” ، خارج المؤسسة الرسمية وكثير منهم لا يعتمدون في معاشهم على الدولة. عُزز هذا من خلال القيود التي كانت موضوعة على الليبيين، في فترة ما، بخصوص السفر إلى العالم وتسهيلها في ما يخص الحج والعمرة. فكان ممنوعا، مثلا، على أفراد القوات المسلحة السفر إلى أي مكان باستثناء السفر إلى السعودية لهذين الغرضين. وكانت أعداد كبيرة من الليبيين، نسبة عالية منهم شباب، تسافر إلى هناك للحج والعمرة والتجارة البسيطة المتمثلة في جلب بعض الاحتياجات والسلع التي كان السوق الليبي يفتقر إليها حينها.
وكان عدد من هؤلاء الشباب يمكثون هناك مددا قد تستمر أشهرا. بحلول نهاية الثمانينيات من القرن الماضي كانت الوهابية [تسمى في ليبيا حينها “جماعة السنة” والآن “السلفية”] قد سرت في المجتمع الليبي وأصبحت تشكل نوعا من المعارضة السياسية من خلال تدخلها في الحياة العامة التي من ضمنها سلوك النظام. مع نهاية التسعينيات تقريبا حاول النظام معالجة الأمر بطريقة غير أمنية (أو إلى جانب الطريقة الأمنية) تمثلت في دعم الطرق والاتجاهات الصوفية عبر ما سميَّ بـ “إحياء المنارات” التي يقصد بها المدارس التعليمية الصوفية، أو ما يعرف في ليبيا بـ “الزوايا”. وكان يهدف من ذلك إلى تحويل النزاع إلى نزاع “وهابي-صوفي”، أي نزاع داخل إطار الدين بين توجهات دينية، بدلا من كونه موجها بشكل ما ضد الدولة ويعتبر نزاعا بين النظام السياسي والدين.
عقب سقوط نظام القذافي انعدمت القيود ضد الحركة الوهابية وتم دعمها بكثافة واشتدت سيطرتها، بحيث نشهدها الآن تسيطر على الحياة العامة في ليبيا وتخنقها وتضع تحت إبطها مؤسسة هشة كنا نتمنى ونتوقع لها النمو كمؤسسة مهنية تحفظ هيبة الدولة وتوفر السلم والأمن الاجتماعييين وتحارب الإرهاب، هي المؤسسة العسكرية الوليدة في شرقنا الليبي، فإذا بنا نفاجأ بأنها لا تختلف عن كتائب مسلحة يمكن أن تكون تحت إمرة الشيخ الصادق الغرياني!.
26/2/2017
بقلم : عمر أبو القاسم الككلي